Sunday, November 28, 2010

اُم الرسائل: إلى أحمد علي عبدالله صالح


عبدالله عبدالكريم فارسabdulla@faris.com
الأخ أحمد علي عبدالله صالح، أدام الله عزه.
أصالة عن نفسي ونيابة عن بلد أوتيت من كل شيء ولها أن تكون ذات شأن عظيم، أوجه لكم اليوم رسالة مفتوحة مفعمة بالصدق وبالصراحة، وبصيغة تسمح لي ولغيري أن نبرئ ذمّتنا علناً على رؤوس الملأ، والأشهاد، والباحثون في ركام واقعهم الشقي ليس عن ترف حكمة مفقودة، بل عن مايسدون به رمق الجوع وبؤس الفاقة.

وهي كذلك رسالة نيابة عن أرض مشلولة الحال، ذابلة الجمال، محبطة الآمال، لا وزر لها في النكوص إن هي سُئلت بأي ذنب أخلفت الموعد مع التاريخ.

نيابة عن يمن لم تعد بحاجة إلى طفرة في المعسكرات، ولاحروب إضافية، ولا أجهزة أمن إستثنائية، ولا نقاط تفتيش، ولا تقاسم سياسي مكرور، ولا نظام انتخابي مزوق، ولاتحتاج لتحالف قبلي مشبوه، ولا إصلاح لاهوتي جديد، ولا فضيلة مستحدثة.

ولم تعد تكترث بعودة الهادي المنتظر، ولا بظهور الدجال، ولا بخلاص المسيح، أو بشفاعة محمد. - وهي كما عهدتموها مثل مواطنيها، لاينقصهم الولاء وليسوا مصابين بأنيميا في الإيمان.

بل انها رسالة مكتوبة بدواة القلب نيابة عن بلد بأمس الحاجة للإنتقال المدروس من النمط الزراعي القديم إلى الحديث، وإلى التصنيع المتنوع، وإلى المناجم والتعدين وإلى التجارة الحرة، وشبكات مواصلات وإتصال غير محجوبة وغير حصرية.

والإنتقال بها من البنى المجتمعية العتيقة إلى العصر الراهن القائم على جودة التعليم والصحة المتاحان للجميع، والفنون العصرية والإعلام الموجهين من أجل خدمة الإقتصاد والإنتاج والبناء والإعمار، وسياحة بلا حواجز، وإطلاق المهارات لتسموا عالياً، ودعم الجدارة الفردية الفاتحة لآفاق الحراك الإجتماعي والإقتصادي.

أخي أحمد:
كما ترى، فإني لست معنياً تماماً بتفاصيل لعبة السياسة القائمة في اليمن إلاّ بقدر كشف زيفها ومخاطر سلوكياتها، فلا أنازعكم الملك، ولا أحسدكم على ما آتاكم الله، أو أنافسكم فيما ليس لي فيه شأن.

ولا زلت أعتز بتلك الخلوة في مقيل خصصته على شرفي في إستقبال إستثنائي، حيث نزلت عليك في منزلك ضيفاً خاصاً، فقضينا وحيدين نهاراً لاينسى، حافلاً ببديع الأفكار الخلاقة التي تبخرت أحلامها ككل الوعود والعهود والمواثيق السياسية، - ويظل بيننا عيش وملح وصلات رحم. وأنا هنا لا أسعى لأن أدعي وصلا، لكني أرفض أن أتجمّل بوجه مستعار.

لذلك، لا تأخذنك عزة "أنا خير منه" بالإثم، أي، لاتطغى عليك نزعة إبليس، ذلك الوغد، الذي لم يفتأ يردد اطروحة "خلدٌ وملك لايبلى" منذ الأزل على كُل إبن آدم حتى وهو يدنيه من الهلاك، فتصاب بنزق أحد الزعماء الذي رمى كتاباً أرضاً أحضره اليه مستشاره، مستهزءاً: - اقرأه أنت.. فأنا من صانعي التاريخ ولست من قرائه!

ولأن إقتران عشق المُلكِ بالخلود المزعوم أقدم من الاسطورة وسيظل كذلك إلى ما بعد التاريخ... - فلا أحد يظن ان مثل ذلك الزعيم يفكر للحظة واحدة بأنه سيموت، لأنه أصبح فريسة الوهم بأنه من طينة أخرى، وأنه توأم الخلود، لذا، تجده سريع الضجر ممن يتوسلون إليه إعمال العقل في سلوكه... ربما لأنه مصاب بجرثومة أنه هو الضرورة والقدر والبلسم الشافي لكل حال، وربما أن من أوهامه ايضاً انه قادم من السمآء ومعصوم ولا ينطق عن الهوى.
صاحب الجناب:
نعلم، أنه لايخفى عليك ذلك السؤال المزمن الذي حوّل المسّرات إلى غضب والأفراح إلى منغصات وأتراح… السؤال الذي أصبح يسيطر على الذاكرة الجمعية وعلى أحاديث الناس، وهو سؤال جاد حول حكاية واحدة تجعلنا خجلين وجلين، نُطأطئ رؤوسنا أمام السائلين، ونحن نعيش مثلباً مُخزياً يختزل كل المرويّات ويحاصر مابقى فينا من كبرياء.

ولن أسعى بهذه العجالة إلى تأكيد نوايا معينة ولا إلى تقريظها، في حين أن غيري يملك قرائن وأدلة دامغة، فأنا شخصياً لن أعرج على فك شفرة ذلك المخطط الإجرامي سوى فرز ماهو معلوم من الناحية العملية، ولا أحتاج لأكثر من ذلك، فكل ما يجرى على أرض الواقع يؤكد فرضية التوريث بقوّة.

وظهور مثل تلك الوقائع حوّلت السؤال إلى حكاية تروي نفسها، وإلى تهمة لاتحتاج لإعتراف.

ولن نجانب الصواب إذا قلنا ان تلك المعطيات على أرض الواقع هي التي تؤدي حالياً إلى تقويض نسيج المجتمع وتهديد تماسك البلاد، وتزيد من حالات الإحتقان والغليان، وتفقد أي عقد دستوري أو تفويض اُسسه الشرعيه، - كما أنها تسيء لك ولوالدك ولتاريخكما برمته، وسوف تدفن الجمهورية ومن ثم الثورة في قبريهما.

وجملة القول ان هذه التهمة بالإضافة إلى سابقة تراجع الوالد الرئيس عن آخر وعد له بعدم الترشيح مجدداً لكرسي الرئاسة، والتي كانت يمثابة فعلة تاريخية نكراء بددت الأمل المعقود على الديمقراطية، وعلى التداول السلمي للسلطة، ونقضت منطق عصر تصفية الطغيان، وكانت الضربة القاضية التي سدّت أفق الأمل وعجلت بإنهاء العهد الوحدوي اليمني.

- وبكل التجرد والإختزالية والصراحة، فإن تلك التهم أصبحت لعنات تطارد كل أركان النظام وقصة عنوانها "السقوط المروع"، وهما يرويان ويسردان بدون كلل أو ملل…!

من السهولة جداً أن نسلِّم بهذه اللحظة الاستثنائية من زمن العجائب، لكن لأن حالة تمرد صعدة وحراك الجنوب أصبحت موجودة في صدر كل مواطن، فإن أصابع الشرفآء بدأت تقترب من الزناد، فيما البعض لايزال يعيش في وهم خرافة ذاتية صنعها لنفسه اسوة بالحاج عمر بونجو، الغابوني الراحل الذي سلم إبنه مقاليد الحكم عقب الرحيل الأبدي غير مأسوفاً عليه.

وحتى لا نصاب بعمى الألوان، - اليمن حالة لوحدها، وعدم التنبوء بردود أفعال أهلها من أبرز خصائصها، فلها شعب محارب منذ فجر التاريخ وذو مزاج إنتحاري متقلب، لا تعرف فيه من معك ومن ضدك، من الصديق ومن العدو، وأين أول الخيط من آخره، ومن بيده في الواقع مقاليد الأمور.

- نعم، اليمن حالة فريدة وخاصة، فاليمن غير سورية وهي ليست مصر، وقطعاً ليست الغابون في غرب أفريقيا أو ليبيا في شمالها، وأنت لاتعيش في بيونغ يانغ أو هافانا. - وكلهن نماذج فاشلات وغير مشرفات، ونظم حكمها من الملكيات والإستعمار سابقاً كانت أفضل وأنظف وأرحم وأعدل.

إن نجاح نظام وظف كُل الإمكانيات والطاقات من أجل هدف واحد كلما انتهى إستحقاقه الرئاسي، ليس بالمعجزة الكونية، وبإمكان أي حاكم عسكري مستهتر أن يقوم بالشيء ذاته في أي زمان أو مكان، - والأمثلة كثيرة -، لكن ذلك في كل الأحوال يجب أن لا يقود بالضرورة والصّيرورة إلى الغرور وظهور نزعة توريث سلالي.

وكما ذكرت ذات يوم، فالقارئ للتاريخ والمتتبع للأحداث يلاحظ مدى إرتباط وجود النظام في اليمن بالإنتخابات والحروب، فلا يهدأ للوالد الرئيس بال من إنتخابات أو حرب حتى يبدأ في الإعداد لمعركة أخرى.

وكأن في ذلك يكمن سر البقاء، في حين أن الإستقرار والتنمية الحقيقية بعبع وغول يهدد صاحبهما بالرحيل لا محالة!

قطعاً، إن تمرير عدة تمديدات رئاسية لايعتبر نجاح باهر أو مطلق، بقدر ما نزع الحياء وأدى إلى فقدان الثقة بالنظام الجمهوري برمته، وأحبط الأمل في أي مستقبل، وأوجد نزوع وحنين دفين ودافئ لعودة الملكية والسلاطين والإستعمار، بعد ان أصبحنا فرجة مضحكة، ومثل فاشل وسيئ عند شعوب وأنظمة الجوار اللواتي تعهدن منذ فجر الثورة إسقاط بدع الجمهوريات كعبرة، حتى تـثني شعوبها من إستلهام أمثلتها، وهاهم اليوم يفركون أياديهم نشوة وغبطة ونصرا.

- أي أن الثمن المدفوع أغلى، وفاتورة القيم التي فقدت أكثر بكثير من المكاسب السياسية التي تحققت.

وحتى أكون صريحاً حتى النخاع، إذ لا يمكن أن يستوعب اليمن نظام "جمهوملكي" شاذ على هذا النحو، فإن نظام وريث وإن أتي بديكور إنتخابي هجين، فإنه لن يوحّد ولن يطور ولن يُعمِّر ولن يطول عمره؛ وعليه ان يتوقع الأسوأ، ومصيراً أسوداً لايبقي ولايذر.

فنحن الآن نبدوا وكأننا مُدانون ما لم نُجب عن السؤال الأصل وماينبثق عنه من أسئلة. فهل بوسعنا أن نُجيب فلا نُنكر ونُفسر فلا نُبرّر، وأن نكون مُقنعين لأنفسنا ومُقتنِعين قبل غيرنا؟

فالسيف، إن تجاهلنا هذا السؤال، سوف لن يغمد بعدها أبداً، ووحدها شفرات النصال وماصنع الحداد هي اللغة التي ستسود بين معظم الناس وبين نظام التوريث ومن والاه... - وموكب التتويج ربما سوف يعبر على أشلاء الكثير ليصل الى القصر، لكنه ربما لن يصل أبداً.

---- الفصل الثاني
هل بقي لي ما أقول؟
نعم، بقى للحكاية تفاصيل أخرى، ولأن الفانتازيا ممتعة ولها مكانها في هذا العالم، سأرويها بالنيابة.

أخي أحمد، من سرّه زمن ساءته أزمان، والأيام هي بالفعل دول، تنشأ وتنشد وتزهو بالصولجانات ثم تزول وتدول، ومصطلح الدولة والقوّة هما مرادفين للإضمحلال وللزوال، - كما يرادف الشباب والحياة مصطلحا الشيخوخة والموت.

اليمن وإن تخلّت مؤقتاً عن كرامتها وإنسانيتها تحت تأثير القوّة والإستعلاء والعنف، لكنّها ستقاوم، وسوف تولد من جديد، وسوف تأتي طاهرة كما المرّة الأولى.

وبعد زوال الكوابيس ستعود إلى ممارسة حياتها العادية وأحلامها الطبيعية.

ستعاود البناء، لتغدو مهندسة السدود الأولى كما كانت، وسوف يخرج من سهولها وصحاريها حدائق أمنها الغذائي، قمحاً وعنباً ونخلاً وابداعاً وانتاجاً وعلماً وفخراً.

وسوف يكون لها أيام، وأبناء لهم مهارات وصناعات ونهارات جديدة ساطعة بالشموس تؤدي الى الجنتين مرة اُخرى... أرض أولوا القوة وأولوا البأس والحكمة... إلى يمن يشبه تاريخه على مر الأزمان.
أخي أحمد: أنتم أول من يعلم أنكم أنشغلتم كثيراً بأمن النظام، وتحسين صورة النظام، والبرع من أجل النظام.
ونحن هنا لا نقلل من أهمية الأمن والدفاع عن البلاد، لكن تلك الهموم يجب ألاّ يحجبا عنا واقع إنهما ليسا سوى تفاصيل من مجمل الصورة، ويجب على الأمن والدفاع ألاّ يجُبّا الضرورات التنموية والإقتصادية، فالأمن والجيش لاضرورة لهما إلاّ للدفاع عن أمن المواطن وحماية مقومات الوطن ومكتسبات الأمة وزرع الإستقرار والسكينة والطمأنينة حتى تسير عجلات البناء والتعمير.

- وذلك هو المفقود اليوم، ودورهما الآن لايتعدى الدفاع عن دار الرئاسة والمكتسبات الشخصية.

وسيوف الإسلام، الصاعدون الجدد هذه الأيام يمارسون مع الناس "تقريع" توماس إدوارد، الملقب بلورانس العرب الذي اكتشف أن العرب لايقتصر غباءهم في أنهم لايفقهون لغتهم فقط، بل أن بهيميتهم متجمدة المنطق، وتذهب أبعد من حدود ذلك.

وإكتشافه المذهل لم يكن بسبب سوء الفهم، بل لأن الضباط العرب لم يتيحوا فرصة لزميلهم للدفاع عن نفسه، أو إخلاء مسؤوليتهم الأخلاقية بعدم التصرف إلاّ بموجب أمر أو حكم كتابي بحيثيات لالبس فيها قبل الإقدام على تنفيذ فعلتهم الشنيعة.

المضحك أنه اقترح على مرافقيه الضباط تقريع أحد زملائهم علناً Reprimand، أي توبيخه، والتي لم يجد لها المترجم سوى كلمة "التقريع" وهي ترجمة صحيحة، لكن ما ان مرت ساعة من الزمن حتى عاد أحد مساعديه مرتبكاً يطالب على عجل بمفتاح خزينة الأدوية لأن دماء الرجل تسيل بغزارة من جراء "التقريع"…!

- أي أنه سُحب بعيداً وتم "تقريعه" بالعصي والهراوات وأعقاب البنادق بموجب تعليمات!

نعم، انشغلتم كثيراً بالهواجس وبالصّور الإفتراضية على حساب الواقع المادي والإقتصادي والإجتماعي، وبإجحاف مفرط، وقليلاً ما انشغلنا جميعنا بواقع اليمن ذاته، وكأن اليمن لاغد له… ومن الطبيعي وجود نفر من شياطين الإنس يبررون لكم ذلك بأننا في زمن الصورة، وتسويق الصورة، وتزويق الصورة.

- لكن ذلك لن يؤمن أحد من انتقام الواقع من جراء نسيانه.

وبما أن العقيدة العسكرية اليمنية استقرت منذ أمد على التبعية والرضوخ لمتطلبات الجوار ومصالح القوى الداعمة، أي ان الجيش اليمني لم يعد له من عدو سوى الداخل، فهل بالإمكان تفسير ماذا يحدث، ودعني اسوق لك مثال، هو مجرد لفت نظر إلى عبارة وجهها سام عبد الله الغباري في رسالة إلى يحيى الراعي بقوله:

… "عندما توحدت اليمن في 90م كان لذمار مشفى واحد ومعسكرين، اليوم ذمار تتورم بتسعة معسكرات و "ذينك" المشفى الوحيد قد صار أتعس مما كان !!"، ولاتنسى ملاحظة "ذينك" الذمارية، كإشارة تصغير وعلامات التعجب.

- وذلك ما يجعل الناس يفغرون افواههم عند كل موجة عسكرة مدن غير متوازية مع مقدرات البلاد، ويستغربون من بلادة صانع القرار العسكري، حيث أن نشر المعسكرات ونقاطها في المدن والقرى هن مسرطنات التذمر والرفض الشعبي والقلاقل القائمة، بدلاً من إقامة قواعد عسكرية ثابتة ونائية عن السكان.

بل أن السؤال الأصل هو، هل من سقف لتلك المهزلة التي تبتلع كثقب أسود من ثلث إلى نصف الدخل القومي للبلاد، وتأتي تبعاته على النصف الآخر؟

كما سبق ان قلت، فإن الإطروحات التي تخدم دورة النهوض والتغيير - وإن كانت آذاننا صمّاء عنها اليوم - لن يمحوها تقادم الأيام علينا، وتراكم الغباء في عقولنا... وستظل دوماً في قمة الأولويات، وإن كانت مطمورة بغبار الحاضر، فسوف نعود إليها يوماً ما.

- آمل ألاّ يصل ذلك اليوم بعد فوات الأوان…!
المصدر أونلاين